هل يطردُ الرديءُ الجيّدَ دائمًا ؟
د. محمد الخالدي
ودَهْـــرٌ ناسُــهُ نــاسٌ صِغــارٌ
وَإنْ كــانَتْ لهــم جُــثَثٌ ضِخـامُ
ولو لَمْ يعلُ إلّا ذو محلٍ
تعالى الجيشُ وانحطَّ القَتــامُ
ومــا أنــا مِنْهُــمُ بـالعَيْشِ فيهِـم
ولكــنْ مَعْــدِنُ الــذَّهَبِ الرَّغــامُ
«المتنبي»
يقول المتنبي ما معناه انه لا يمكن مساواة الذهب بالتراب. وبرغم أن الذهب موجود مع التراب ومعجون فيه، فإن قيمة الذهب الفعلية لا يدانيها التراب. وبإمكاننا أن نستخدم ذلك التباين، فنقول نفس الشيء عن الإنسان المخلوق من التراب، فمن الناحية الاسمية فإن لهما نفس القيمة، حيث إن الإنسان مخلوق من التراب. ولكن الله رفع قيمته عند استخلافه واستودع فيه عقلا ومعاني عالية اقترب بها إلى السماء. ومتى ما ابتعد الإنسان عن خواصه السامية وطغت عليه المادة ومات أخلاقيا، أصبحت قيمته كالوحل أو أقل. وفي جانب آخر، فإن عجز الناس عن التفريق بين التبر والتراب وبين الغبار والجيش أو بين الأشرار والأخيار، بناء على الشكل وليس الجوهر، فإن الغلبة ستكون في النهاية للأشرار.
يقول الخبير الاقتصادي «غريشام» فيما عرف بقانون غريشام، إذا كانت هناك عملتان مختلفتان في الجودة وتحملان في نفس الوقت - حسب القانون - نفس القيمة الاسمية، فإن العملة الجيدة سوف تختفي من التداول في السوق. فالناس سوف تتعامل بالعملة الرديئة وتحتفظ بالعملة الجيدة أو تذيبها وتبيعها معدنا. وطبعا، هذا لا يحدث إلا عندما تساوي الأنظمة بين العملتين في القيمة الاسمية. وقبل غريشام بنحو مئة عام، أشار المؤرخ العربي تقي الدين المقريزي إلى نفس الفكرة عندما انتقد العملة المسكوكة من النحاس في مصر وغيرها، وذلك للفرق الكبير بين قيمتها الطبيعية والاسمية، مقارنة مع الذهب والفضة.
وعلى هذا، فإن البضاعة الجيدة إذا ما دخلت عليها بضاعة رديئة، فإن البضاعة الرديئة تطردها من السوق. فالكتب مثلا إذا كانت هناك منها نسخ مطبوعة بشكل جيد، ونسخ مطبوعة بشكل رديء، فإن الناس سوف تشتري الرخيصة لتختفي الجيدة من السوق، لأن الناس في الغالب قد لا تدرك الفرق في الجودة بين النسختين. والمقاول الذي يفوز بمناقصة ويجد أنه من المسموح به أن يمنح مناقصة من الداخل لتنفيذ بعض أجزاء من المناقصة بتكلفة أرخص، غالبا ما يصبح سمسارا ليعطي ما أمكن من المناقصة للغير الذي ينفذها بشكل رديء.
ولعلي استطرد فأقول إذا كان أمام الجامعات في العالم طريقان لتبوء مراكز متقدمة والمنافسة فيما بينها، أحدهما هو البحث العلمي الحقيقي وتخريج الكوادر المؤهلة والكفؤة، والآخر هو تزويق الأرقام وشراء الباحثين في مختلف أنحاء العالم لتسجيل بحوثهم اسميا ضمن قوائم بحوث الجامعة، فإن الجامعات سوف تتسابق بشكل مسعور لتستثمر كل جهد ممكن في مجال التصنيفات الوهمية وتهمل دورها الحقيقي الذي سوف يضمحل مع الوقت، لتقع في أشنع مزلق أخلاقي لا يليق بأي مؤسسة، ناهيك عن المؤسسات التعليمية. ولكن ذلك كله لا يحصل أبدا، إلا إذا كانت البيئة التي تحيط بالجامعة ومنها الأطر النظامية والقانونية التي تعمل في حدودها، لا تفرق بين هذا وذاك. فتروج عندها البضاعة الرديئة وتختفي البضاعة ذات القيمة والجودة تدريجيا.
وأخطر مما سبق كله، هو ما يخص جودة المعلومات وموثوقيتها. فقد أصبحت المعلومات من خلال الإنترنت هي العملة التي نتداولها بشكل يومي. وهناك وفرة من المعلومات المحيِّرة. فالجميع يملكون الحرية في نشر ما يريدون، مما جعل الإنترنت وسيلة قوية لنشر المعلومات الجيدة والموثوقة، في الوقت الذي أصبحت فيه أيضا ساحة للمعلومات السيئة والمضللة. في عصر الطباعة، كان التمييز بين الغث والسمين من المعلومات أسهل بكثير مما نحن عليه اليوم في عصر الإنترنت، حيث أصبح التمييز بين الموثوق وغير الموثوق من المعلومات صعبا، كما أصبحت نسبة المعلومات غير الموثوقة أكثر بكثير من ذي قبل. ففي مجال التعليم مثلا، أصبح الأساتذة يشكون من ضعف جودة المعلومات التي يحصل عليها الطلاب من خلال الإنترنت، إذ ليس هناك دليل يثبت أن أول المعلومات التي يحصلون عليها من خلال محركات البحث هي الأكثر صحة وموثوقية.
إذن، هل نشهد اليوم طرد المعلومات الرديئة غير الموثوقة للمعلومات الجيدة والموثوقة؟ ربما كان الجواب بالإيجاب، فقد خلصت دراسة بحثية حديثة مشتركة أجراها باحثون في كلية الاتصالات بجامعة أوهايو وجمعية السرطان الأمريكية، إلى أن مصداقية مصادر المعلومات لم يكن لها أي تأثير على تقييم الباحثين عن المعلومات لجودة المعلومات التي كانوا يتلقونها.
وفي مجالات الحياة المختلفة، نرى كيف يطرد شرار الناس خيارهم بنفس الطريقة التي تطرد بها البضاعة الرديئة البضاعة الجيدة. فنحن عندما نبرر الجبن والبخل والكذب والنفاق والغدر، وتختفي بشكل أو بآخر الخطوط الفاصلة بينها وبين نقائضها، فنقول إن الجبان حكيم، والشجاع متهور، والبخيل مدبّر، والخائن مجتهد، فإن الناس تبحث في أغلبها عما هو أسهل وأسلم وأرخص وأقل مخاطرة، فقد قال المتنبي رحمه الله:
لولا المشقةُ ساد الناس كلهم