• ×

09:07 مساءً , الخميس 19 جمادي الأول 1446 / 21 نوفمبر 2024

د محمد الخالدي

هل للتعليم دور في مكافحة الفساد؟ د. محمد الخالدي

د محمد الخالدي

 0  0  1669
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
هل للتعليم دور في مكافحة الفساد؟
د. محمد الخالدي
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)

[البقرة: 204 - 205]

هل للتعليم دور في مكافحة الفساد؟ وهل هناك علاقة بين مستوى التحصيل العلمي للإنسان والانغماس في الفساد؟ هذا التساؤل قد يختلف الكثير منا في الإجابة عنه. فالثابت من خلال الإحصاءات الدولية، أن نسبة التحصيل العلمي في ازدياد، فقد قفزت نسبة محو الأمية في العالم من نحو 76% في العام 1990 إلى نحو 86% في العام 2015. وازدادت نسبة محو الأمية في الوطن العربي لنفس الفترة من نحو 55% إلى نحو 80%. وفي المقابل فإن الإحصائيات تقول إن الفساد في ازدياد، حيث بلغ مؤشر الخلو من الفساد الصادر عن منظمة الشفافية العالمية في العام 1995 عالميا 59.2%. وبلغ المؤشر نفسه للعام 2015 نحو 42.57%، دالًا على استشراء الفساد في العالم.

وقد أكدت هذا التناقض دراسة واسعة أجريت في العام 2012 من قبل الباحثة ميشيل كافينبيرغر ضمن رسالتها للماجستير بجامعة فنداربيلت. فقد أشارت الدراسة التي ضمت 27,000 شخص موزعين على 20 دولة أفريقية إلى أن هناك تأثيرا إيجابيا للتحصيل العلمي على المشاركة بالفساد. أي أنه كلما ارتفع المستوى التعليمي لدى الأشخاص ازدادت نسبة تورطهم في الفساد.

قد تبدو النتيجة مخالفة لما يعتقده البعض منا، من أن التعليم يقود في الغالب إلى تعزيز السلوك الأخلاقي والقانوني، والتماسك الاجتماعي، والمسؤولية المدنية، والتي من شأنها أن تؤدي إلى وجود علاقة سلبية بين التعليم والتورط بالفساد. ولكن الواقع الذي اكتشفته الدراسة أن هناك تأثيرا عكسيا للتعليم في البلدان التي يستشري فيها الفساد، حيث نظم التعليم نفسها قد تكون فاسدة. وعندها يجعل التعليم الفساد هو القاعدة الاجتماعية.

وقد وجدت الباحثة أن تأثير التعليم على ممارسة الفساد يكاد يكون معدوما عند الحاصلين على التعليم الابتدائي. بينما ارتفع التأثير إلى 2.3 نقطة مئوية للحاصلين على الشهادة المتوسطة. وزاد التأثير إلى 5 نقاط مئوية للحاصلين على الشهادة الثانوية. وبلغ 10.5 نقطة مئوية للدراسات بعد الثانوية ودون الجامعية (كليات التقنية والدبلوما). وكان أكثر الناس استعدادا لممارسة الفساد والرشوة هم أولئك الحاصلون على الشهادات الجامعية بنسبة 13.7 نقطة مئوية.

ولكن في المقابل، فقد ثبتت أهمية تثقيف مواطني المستقبل في قيم النزاهة والمواطنة والشفافية للوقاية من الفساد. فهناك دراسة أجراها البنك الإسلامي للتنمية مؤخرا. وأظهرت الدراسة التي تركزت على 30,000 طالب في الصف الثامن (ثاني متوسط) في 6 دول في أمريكا اللاتينية (تشيلي، وكولومبيا، وجمهورية الدومينيكان، وغواتيمالا، والمكسيك، وباراغواي)، أن إعطاء الطلاب المزيد من التربية المدنية يجعلهم أقل تساهلا تجاه ممارسات الفساد وأقل عرضة لانتهاك القانون.

هناك مبادرة أكاديمية على مستوى العالم لمكافحة الفساد (ACAD). وهذه المبادرة التي انطلقت في العام 2011 كمشروع أكاديمي تعاوني شامل يقودها فريق خبراء يضم مجموعة واسعة من الأكاديميين والخبراء الحكوميين والمسؤولين من المنظمات الدولية، بينها مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة. ويهدف المشروع إلى إيجاد أدوات أكاديمية لمكافحة الفساد من خلال الوحدات الدراسية، ومفردات المناهج، ودراسة الحالات، والأدوات التعليمية، والمراجع التي يمكن أن تُتبنى من قبل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية لتكون جزءا من برامجها الأكاديمية القائمة. ويسعى المكتب الأممي بالتعاون مع عدد كبير من الجامعات في العالم إلى تشجيع تدريس قضايا مكافحة الفساد كجزء من المقررات في مجالات القانون، وإدارة الأعمال، وعلم الجريمة، والعلوم السياسية. وكل مقرر دراسي ينتج من خلال هذه المبادرة في مواضيع مكافحة الفساد يوضع على الإنترنيت كمصدر مفتوح ومجاني لكل المعاهد والجامعات في العالم وبلغات متعددة ومتوافقة مع البيئة التعليمية المحلية والنظم التشريعية لكل بلد.

والحقيقة أن للتعليم دورا أساسيا في تقليم أظافر الفساد وتحجيمه. ولكن ذلك لا يتحقق إلا من خلال توفر بيئة تعليمية نظيفة تعم فيها الشفافية والمهنية والنزاهة، ولا يتم فيها اختيار الكوادر التعليمية على أساس حزبي أو طائفي أو أي انتماء آخر، ولكن على أساس الكفاءة والأهلية. وتدعم برامج التعليم بمناهج تقوِّي الوعي لدى الشبيبة حول الفساد وتعمل على تحصينهم ضده. أما إذا كانت منظومة التعليم فاسدة، فإنها تصبح بيئة مميزة، ولكن في تفريخ الفساد ونشره في المجتمع. فالمؤسسة التعليمية التي يتم فيها بيع أسئلة الاختبارات، أو يكون الأستاذ فيها مدرسا خصوصيا، أو يتم فيها القبول بالواسطة، أو يتزوج فيها الأستاذ تلميذته، يتعلم طلابها أن الفساد سلوك مقبول ويحملون معهم ذلك في حياتهم العملية.

فالأهم ليس هو التعليم ولكن جودة المؤسسات التعليمية. فالأطفال يتعلمون في المدارس أشياء أكثر بكثير من القراءة، والكتابة، والحساب. ولذلك فإن مكافحة الفساد تبدأ في النظم التعليمية، من خلال التأكد من أن القيم الاجتماعية التي يجري تدريسها أو كسبها تتماشى مع القيم الأخلاقية، والسلوك القانوني، والمسؤولية المدنية.

التعليقات ( 0 )