اليوم يتخطى المهرجان الوطني للتراث والثقافة عتبة الثلاثين عاما تاركا وراءه كما هائلا من الإنجازات مثلما خلف وراءه قدرا غير قليل من الأسئلة والتي رافقت ميلاد هذا المهرجان مع الظروف السائدة في المنطقة والعالم إبان انطلاقة المهرجان بتاريخ 24 مارس 1985.
لقد نجحت الجنادرية، في أن تكون أيقونة التراث والثقافة، مثلما نجحت بحفظ وعرض وتصنيف وتقديم التراث وتعميق الوعي بين الأجيال بأكثر من طريقة حديثة وتقليدية للأجيال الجديدة.
استطاعت الجنادرية أن تجسر الهوة بين الثقافات المجتمعية المحلية على مساحة الوطن وامتداد المواطنين من مختلف مناطق المملكة الـ13 ما بين المدينة والقرية والبادية.
لكن التحدي الحقيقي أمام الجنادرية وأمام الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني منذ البداية كان في كيفية التعامل مع هذا التراث.
إحدى المدارس التقليدية كانت ترى الحفاظ على هذا التراث وتعليبه وتسييجه ورفض الاقتراب منه أو التفاعل معه بغرض الحيلولة دون اندثاره وتشويهه أو انتقاص قيمته والنأي به عن كل ما هو معاصر وعدم تحديثه أو ترميمه أو بروزته، فيبقى حيث هو أو في المتاحف وضمن إطاره الزمني والمكاني.
على النقيض من المدرسة التقليدية، ترى المدرسة الحديثة، أن يتم استنطاق هذا التراث والإرث الثقافي بنزع القدسية المتحفية عنه وفتح كنوزه القيمية وإتاحة أسراره للزوار والسياح كمنتج ثقافي سياحي وبما ينسجم مع مفهوم السياحة العصري بواسطة الربط العضوي بين المواقع الأثرية والإرث الثقافي كقيمة حضارية من ناحية والمفهوم العصري للسياحة كسلوك بشري عصري.
يبدو أن هيئة السياحة والتراث الوطني بدأت الخطوة الأولى برحلة الألف ميل وهو طريق ليس مفروشا بالورود حتما، إن مشروع تأهيل وتطوير أواسط المدن والذي تقوده هيئة السياحة بالشراكة مع وزارة الشؤون البلدية والقروية يؤكد أن رؤية هيئة السياحة آتت أكلها، حيث ستتم عملية جراحية لقلب كل مدينة من مدننا بعد أن هجره السكان وتركوه إسمنتيا وفرغت أواسط المدن من قيمتها وبقيت أواسط مدننا أشباحا مرعبة في حالة اغتراب بلا الهوية.
إن وسط المدينة هو قلبها النابض وأيقونة نشاطات المدينة بما يعكس هوية المدينة وسكانها، فالهوية والحضارة والثقافة لا تولد ولا توجد في فراغ وإنما هناك انصهار وتفاعل دائم بين إنسان ومكان وزمان وهو ما يصنع الهوية ويؤسس للحضارة.
بالمناسبة أتمنى أن ترفع وزارة الشؤون البلدية والقروية يدها تماما عن تجميل المدن، فهذه مهمة تحتاج إلى فن يتنافى تماما مع الثقافة السائدة في المؤسسة البلدية. يكفي أن البلديات قضت تماما على التمايز الثقافي لكل مدينة من خلال الأشكال الرمزية لصحون المفطحات والتي في نظري لا تعبر عن الكرم العربي بقدر ما تعبر عن إفلاس في الذائقة والفن مع تأثر واضح بثقافة الهياط والمهايط.
رغم نجاحات الجنادرية وهيئة السياحة بتحقيق كمي ونوعي كبير في مجال التراث والإرث الثقافي، إلا أن الجهتين بحاجة للعمل على توثيق وتصنيف وتقديم الفنون عموما بما فيها الفنون الغنائية والمسرحية. فمازالت الفنون مشطوبة وآلاتها مغيبة عن الجنادرية وهيئة السياحة.
لا يمكن أن نتحدث عن السياحة ولا نتحدث عن العروض المسرحية والحفلات الغنائية المماثلة لما تعرضه التلفزيونات المحلية، إذا كنا فعلا نراهن على السياحة في استيعاب السياح السعوديين وإذا كنا نراهن على السياحة كمولد لفرص العمل ومصدر من مصادر إقامة المشروعات الاستثمارية للشباب، إضافة إلى تطبيع العلاقة بين الإنسان وثقافته وتراثه المحلي، دون تطرف لليمين أو للشمال ولتقليص هوة الاغتراب الثقافي الذي يعاني منه المواطن العربي عموما.
من المهم التفكير الجدي بتأسيس مركز علمي لدراسات التراث والثقافة والفنون لفرز وتأصيل وتصنيف وتوثيق التراث والثقافة والفنون ويعقد مؤتمره العلمي السنوي بالتزامن مع مهرجان الجنادرية.
أخيرا، هناك حاجة ماسة لاستنساخ فكرة الجنادرية في كل منطقة من مناطق المملكة على أن يستمر العمل بها وتستقبل مرتاديها على مدار العام، مع بقاء المهرجان الوطني للتراث والثقافة بشموليته رمزا وطنيا يعقد سنويا في الرياض.