• ×

11:21 صباحًا , السبت 21 جمادي الأول 1446 / 23 نوفمبر 2024

فهد بن سعدون الخالدي

ثقافة العيب أم عيب الثقافة؟

فهد بن سعدون الخالدي

 0  0  2139
زيادة حجم الخط مسح إنقاص حجم الخط
فهد الخالدي

ليس هناك مجتمع أو أمة في التاريخ إلا وكانت قيمة العمل فيه قيمة عليا، وهي في الدين الإسلامي عبادة يثاب المرء عليها، فالسعي من أجل الرزق نوع من أنواع الجهاد، والمأثور الديني والثقافي والتاريخي يزخر بالأدلة الواضحة على ذلك؛ حيث إن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول: أرى الرجل فيعجبني، فأسأل: أله حرفة، فإن قالوا: لا، سقط من عيني.

والشواهد على أهمية العمل في واقع ومستقبل الأمم والأفراد يضيق المكان والزمان عن حصرها، ولذلك، فإن المجتمعات المتحضرة لا تجد فيها من يحتقر مهنة أو يحجم عن مزاولتها بدافع العيب أو الإحساس بالنقص، بل يمارس كل إنسان ما يقدر عليه أو ما يتقنه أو حتى ما يتيسر له من عمل، كما يحرص الآباء والأمهات وتبذل الدول جهوداً مضنية لإعداد الأفراد للمهن التي يتطلبها سوق العمل، وفي الأمم الحية يجري التخطيط جيداً للمواءمة بين احتياجات السوق ومخرجات التعليم؛ حتى لا تكون هناك بطالة في بعض التخصصات، وفائض فيها تعجز سوق العمل عن استيعابه، ونقص وحاجة في بعض المهن والتخصصات كما يحصل الآن في كثير من البلدان.

المختلف في الأمر في مجتمعاتنا العربية وعلى وجه الخصوص في مجتمعنا السعودي ربما يكون أكثر وضوحاً هو ما يسمى "ثقافة العيب" والتي تجعل بعض المواطنين يرفضون العمل مع حاجتهم إليه؛ بسبب النظرة الدونية لهذا العمل أو المهنة من قبل المجتمع، حتى أنهم يفضلون البطالة مع الفاقة على امتهان بعض المهن، وهي ثقافة سلبية لا يجوز أن نسمح لها بالاستمرار أو الانتشار، بل إننا جميعاً مطالبون بالحد منها ولا يكون ذلك بالكلام وحديث المجالس والطرقات فقط، بل إن على كل منا أن يضرب القدوة والمثل في ذلك سواء بالسماح لأبنائنا ومن نستطيع التأثير عليهم بممارسة هذه المهن أو بالتأكيد على ضرورة احترام العامل أياً كان عمله وموقعه وترجمة ذلك إلى أفعال وممارسات واتخاذ الإجراءات التي تغير النظرة السلبية لبعض المهن ومن يمارسها من المواطنين أو الوافدين إلى نظرة إيجابية. ومن ذلك الحوافز المادية وتحديد راتب المهنة بما يتناسب مع العمل نفسه وأهميته والمشقة التي يتحملها العامل، ومنح الحوافز التي تعطى للمهن الأخرى لأصحاب المهن التي لا تشملها ثقافة العيب؛ كالتأمين الطبي والمنح والقروض والإجازات والمكافآت وغيرها؛ هذا من الناحية المادية.

ومن الناحية المعنوية، لا بد من اتخاذ بعض الإجراءات الإيجابية، ومن ذلك -على سبيل المثال- تغيير مسميات بعض المهن، كما حصل في دولة الأردن الشقيقة، مؤخراً، حيث أُطلق اسم (عامل وطن) على عمال النظافة من المواطنين والمقيمين الذين يؤدون هذه المهنة في شوارع العاصمة والمدن الأخرى، كما غُير لون اللباس الذي يرتدونه إلى لون آخر ربما يكون أدعى للراحة النفسية وتحسين منظر العامل.

والذين عاشوا في الدول الصناعية المتقدمة -كما نقل لي بعض الأصدقاء- لا بد أنهم لاحظوا كيف يخرج العامل من المصنع في أحسن هندام لا فرق بينه وبين مدير المصنع من حيث المظهر واللباس بعد أن يكون قد خلع هذا اللباس في الصباح واحتفظ فيه في مكان مخصص داخل المصنع، ثم لبس لباس العمل ثم عاد في آخر الدوام ليلبس لباسه الذي جاء فيه ويعود إلى بيته في أحسن هيئة.

لا أعتقد أن هذه الدعوة سوف تلقى استجابة سريعة؛ لأن النظرة السلبية هي جزء من الموروث الثقافي العميق الممتد لسنوات عديدة، رغم تعارضه مع الآداب والواجبات والسلوك التي تحث عليها الشريعة السمحاء.

ولذلك، فإن المطلوب حشد الرأي العام وجهود الأفراد والمؤسسات وكافة قوى المجتمع الفاعلة؛ لتعزيز ثقافة احترام العمل وتقديره، ومواجهة مقاومة التغيير التي تلقاها هذه الدعوة، وفي الطليعة تأتي المدرسة والمسجد والصحيفة والمجالس العائلية، وقبل ذلك القنوات الإعلامية، بحيث لا يقتصر على الوعظ المباشر، بل أن يشارك الأدباء والمثقفون وكتاب السيناريو والمخرجون في توفير مادة إعلامية ترسخ الثقافة المطلوبة بما هو محبب من أساليب التأثير غير المباشر من مسلسلات وغيرها..

لكن الذي أثق فيه أن ما أدعو إليه قد أخذ يصبح قناعة تزاد يوماً بعد يوم وهو ما يبشر بالتغيير المطلوب في ثقافة العيب التي تعتبر النظرة السلبية لبعض الأعمال عيبا في ثقافتها؛ تبشر بذلك بعض المبادرات ومنها التحاق (300) من الشباب السعودي في المبادرة التي أطلقت بعنوان "يداً بيد نبني يومنا والغد"، وهي مبادرة تبناها الأمير عبدالرحمن بن فيصل بن سعود بن عبدالعزيز، والتي التحق بموجبها هؤلاء الشباب في أعمال البناء واللياسة والبلاط وغيرها من الأعمال الإنشائية لدى شركة طلائع التميز، ضمن اتفاقية شراكة مع برنامج التدريب والعمل الذي تنفذه جمعية البر بالمنطقة الشرقية.

وقد سعدت لقيام معالي وزير العمل الدكتور مفرج الحقباني بزيارة هؤلاء الشباب؛ لتشجعيهم ومباركة إرادتهم، وهو عمل يشكر عليه.. ونتمنى المزيد من أمثاله لتعزيز هذه التوجهات.

التعليقات ( 0 )