احمد محمد الطويان الخالدي
يكتب عن النيات ..
.
الأفضلية لا تُعطى ولا تُهدى بل تُنتزع، والمشوار الطويل لا ينتهي بالخطوة الأولى، ولا يمكن أن تكون الأعمال بالنيات إلا في العبادات، لا في أمور الحياة وشؤون السياسة ودهاليز الاقتصاد، نقول في المثل العامي الشهير «النية مطية»، والنوايا مطايا ولكن تنتظر الممتطي الماهر، لتسبق وتكسب، والرغبة في التغيير مطيّة أصيلة، وتغيير الحال والأحوال يحتاج إلى شجاعة وإقدام، لا بأس لو قادتهما النية. المسلّمات التي صنعها الأسلاف قد تكون معطِّلة ومانعة لأي تقدم أو تطوير، فقط علينا الالتفات إلى مجتمع مليء بالمسلّمات المعطِّلة، لنعلمه بأن تلك المسلّمات ليست أصيلة في ثقافتنا، بل دخيلة، نمت في أجواء غير طبيعية، وأفسدت ولم تصلح.
علينا إشاعة قيم التسامح، وتقديم الأولويات، وإشغال الشباب بالأمل والعمل، لا بمباريات كرة القدم، وملاحقة آخر صرعات الموضة، وما أنتجه التواصل الاجتماعي ببرامجه التلفونية واللوحية من محتوى «بعضه» تافه، سيّد الفراغ وشرعن الخواء!
يجب أن نثور على أنفسنا، ونتحول في بيوتنا قبل أن تتحول مؤسسات الدولة، مجتمعنا الاستهلاكي يجب أن يستيقظ بنفسه قبل أن تصفعه التحديات. التغيير لا يحصل بضغطة زر، لأن طريق النجاح أطول وأعقد من منزلق الفشل «السهل» ومن أراد النجاح عليه أن يؤمن بالفكرة ويصدقها هو قبل أن يقنع بها غيره.
كيف يتحول المجتمع وتتغير مسلَّماته المصطنعة، ويتحرر من قبضة الوصايا الفكرية المعقدة، خصوصاً الجيل الصغير الذي يتربى على إرثٍ معظمه أصيل وبعضه مصطنع ووهمي وكارثي، في تأصيل ثقافة لها قدسية مزيفة وليست دينية، ولا علاقة لها بالمدنية، ونتائجها تناقضات بين المثاليات أو ما يجب أن نفعله، وما نقوله بألسننا ونمارسه فعلاً، ولا أعمم، لأن هناك من رحمهم الله بالتوازن وابتعدوا عن المؤثرات الاجتماعية الدخيلة التي عطّلتنا تنموياً وثقافياً بكل أشكالها.
دعونا نلقي نظرة على الماضي، تنموياً وسياسياً، لارتباط السياسة والاقتصاد بالمجتمع ونموه الفكري وتطور وعيه، في عام 1936 كانت السعودية تعيش التحدي الأهم وتنتظر الأمل باكتشاف النفط بكميات تجارية، وكل العيون متجهة نحو خبراء شركة كاليفورنيا أريبيان ستاندرد أويل كومباني (كاسوك) عسى أن تأتي بشرى من الدمام، ليشبع الناس بعد جوع، ولتتيسر حياتهم بعد عسر، والمجتمع كان يعلم بأن السياسي يعمل من أجل مصلحته، رغم أنه كان يجهل معنى نستخرج النفط أو نستقدم هؤلاء الأجانب. في عام 1946 تنفست السعودية برئة النفط، وأينعت شركة النفط وكانت قد غيّرت اسمها من (كاسوك) إلى «أرامكو»، وتحركت سياسياً بالزيارة الملكية الأولى للمؤسس الراحل الملك عبد العزيز إلى مصر، وأيضاً بتمثيل ولي العهد الأمير سعود لوالده في القمة العربية بالقاهرة، وببناء عسكري أكثر تنظيماً من خلال إنشاء وزارة للدفاع، وهي ثاني وزارة في التاريخ الحكومي السعودي، وكانت الحركة الاقتصادية أكثر نمواً والناس أكثر تقبلاً للجديد ولكن بحدود المعقول بمعايير ذاك الزمان، ولكن المجتمع بقي مترقباً لنتائج هذا الانفتاح والتأثير الدولي المختلف.
بين عامي 1936 وعام 1946 عشر سنوات من التحديات كان بينهما أحداث كثيرة ومثيرة تنموياً وسياسياً واقتصادياً وحتى اجتماعياً، ومن 1956 إلى 2016 هي 60 عاماً شهدت التغيير الدرامي الكبير والمهول، والذي يصعب تخيله لو كنا نعيش في ذاك الزمن. بين عامي 1936 و2016 بالتحديد حكاية غريبة، تختصر الكثير، كنا نبحث عن «احتفاء» بنفط يدر مدخولاً يحيي اقتصاد الدولة التي كانت في بداياتها، وفي 2016 أصبحنا نبحث عن «اكتفاء» من المورد الذي صنع لنا التنمية المثيرة والكبيرة في 80 عاماً. هنا أقول بأن في كل عشرة أعوام نتحول بأفكارنا التنموية، وتتحول أولوياتنا، ويتغير المجتمع، ولكن تغير المجتمع لا يعني بأنه يتحول إلى إفادة الاقتصاد بشكل أكبر.. بل كان المجتمع يتحول إلى المزيد من الاستهلاكية بمعايير كل حقبة، ففي زمن الستينيات ومطلع السبعينيات، كان الاستهلاك له أنماط تختلف كثيراً عن استهلاك الثمانينيات والتسعينيات والألفية الجديدة، وشكّل الترف تغيُّراً كثيراً، والعادات الاجتماعية اختلفت، والاختلاف في ظاهره حسن، ولكن دواخله فيها كثير من القبح ثقافياً واقتصادياً ولا أفصل في الظواهر الاجتماعية بين ثقافة المجتمع واقتصاده، وهنا أعني اقتصاد الأفراد لا اقتصاد الحكومة، وسبب هذه النتيجة تتحمّله الحكومة بالتأكيد لأنها لم تلتفت إلى الوعي التنموي، ولم تجعل المجتمع قابلاً للتحول الاقتصادي الإيجابي أو السلبي وإدارته في كل الأحوال لصالح الأفراد.
طفرة المال في السبعينيات تلاها طفرة دينية تمثّلت بما تُسمى بالصحوة، - وإذا ربطنا ثقافة المجتمع باقتصاده لا بد لنا أن لا نفصلهما ولا نبعد نتائجهما - ففي تلك الحقبة زادت التجاذبات الفكرية، وتقديس الأفكار، وتسييسها، وتحويل الخطاب الاجتماعي من الخطاب الأخلاقي التوعوي، إلى خطاب الوصاية والاقتياد، كل هذا أنتج حالة غير طبيعية. هذه الحالة غير الطبيعية جعلت المجتمع الواقع بين الاختلافات والتحولات الاقتصادية والثقافية المتلاحقة غير مستعدٍ لأي تغيير على مستوى النظام السياسي أو الاقتصادي من حيث الرؤية أو التوجه دون تهيئة وتمهيد، ولتنجح التغييرات الكبيرة ستبدأ من المجتمع، ومجتمعنا تعود أن ينقاد نحو التحولات، ولأنه غير مستعد قد ينتج عن التغيير بعض الترسبات، وتظهر بعض الإرهاصات. والمجتمع طوال السنين الماضية، كان بين مُجهل متطرف وجاهل متفسخ، وكانت الحكومة محافظة على خطها الديني والسياسي، وتوازناتها التي لا تتلاعب بها من عهد مؤسسها المرحوم الملك عبد العزيز وحتى يومنا هذا، لأنها تدرك بأن الخوض في السجالات الاجتماعية سيشغلها عن مهامها الرئيسة والمهمة بأنها الحاضن الكبير لكل الفئات والأفكار والألوان، وابتعادها عن النزاعات الأيدلوجية، وغيرها من أشكال الاختلاف الطبيعي، والحوارات التي لا تتجاوز القشور، لا يعني أنها بعيدة عن الواقع، بل هي الواقع وتصنعه وتوجهه، ولكن في كل مرة يصحو المجتمع من غفلة القشور على لب لم يكن يتوقعه، لأنه يمضي وقتاً طويلاً في مناقشة قشرة الثمرة لا بتقشيرها أو التفكير بأكلها، إلا عندما تحسم الحكومة وتحزم، ويكون قرارها هو الصائب، والشواهد تاريخياً تثبت ذلك.
نحن أمام واقع تنموي جديد، ولن نتمكن من مواجهته بالأمنيات، ولن نتجاوزه للوصول إلى أحلامنا بالنوايا. ويبدو أن الإرادة السياسية حاضرة ومتحمسة، ولكن المجتمع «الذي تغير كثيراً» يحتاج إلى التفاتة تنموية، وإلى توعية وليس اقتياداً، ليكون أكثر انسجاماً وفهماً، وليتخلص من العادات الاستهلاكية التي تزيد أعباءه، وتجعله غارقاً بالمظاهر، بينما هناك شرائح كثيرة تبحث عن الأساسيات.. نحتاج إلى تحول اجتماعي يُوازي التحول الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي وفق رؤية تنموية اجتماعية طريق طويل، وعملية صعبة ولكنها ليست مستحيلة، وهي الأهم ليتغير فهمنا لحاضرنا ولطريقة التفكير بمستقبلنا. في الدين تكون الأعمال بالنيات ولكن بالتأكيد ليس بالاقتصاد والسياسة والأهم ليس في إحداث تغيير اجتماعي... نرجو بتفاؤل أن يكون غداً أفضل.