ميزانية المناطق .. الوقت والمواقيت
عبداللطيف الضويحي
مع اقتراب موعد الميزانية السنوية، ومع اقتراب نهاية العام الميلادي، ينشغل الفلكيون وخبراء الميزانيات، هذه الأيام من كل عام بموسم التكهنات والتخمينات حول المستقبل والنجاحات والإخفاقات، وما تحقق وما سيتحقق للدول والشعوب والأشخاص، سواء تلك التي يقوم بها الفلكيون نهاية كل عام أو ما يقوم بها خبراء الميزانية السنوية مع اقتراب موعد الميزانية. رغم الاختلاف الجوهري بين أدوات قراءة الفلكيين للمستقبل وأدوات قراءة خبراء الميزانية ومنهجيتهم وحتى طريقة تفكيرهم، إلا أن شهر ديسمبر من كل عام يجمع هؤلاء وأولئك.
المال عصب الحياة كما يقولون، لكن يبدو أن المال وحده لم يعد عصبا للتنمية، فرغم أهمية المال في العمل التنموي.. أصبحت هناك عوامل غير مالية أصبحت بأهمية المال ذات تأثير في نجاح التنمية، ربما أكثر تأثيرا في نجاح مشروعات التنمية. فالتنمية تقاس بنتائجها وبمردودها على الإنسان والمجتمع في نهاية المطاف، ولا تقاس التنمية بأرقام ميزانياتها.
الشواهد كثيرة والتجارب التنموية الناجحة والتي أصبحت تضيق بذكرها رغم تواضع ميزانياتها، مثلما أن الشواهد والأمثلة كثيرة على إخفاقات التنمية ومشروعات تنموية رغم أرقام ميزانياتها.
فبنفس أهمية الميزانيات المالية، أصبحت الأهمية لمكافحة الفساد الذي أصبح سوسة المجتمعات وآفة تطورها. وبنفس أهمية أرقام الميزانية لبناء وتأسيس البنية التحتية، تكون الحاجة ماسة للحد من نسب البطالة في المجتمعات. وبقدر أهمية أرقام الميزانية لمشروعات التنمية، تكون الحاجة ماسة، لتمكين الفقراء وذوي الحاجات الخاصة وذوي الدخل المحدود من الشمول المالي للانخراط في الدورة الاقتصادية الكلية للمجتمع. وبقدر ما تكون الميزانيات المرتفعة مهمة، تكون الحاجة ملحة لتمكين أبناء البلد من الجنسين وردم الهوة بينهما من خلال برنامج تكافؤ الفرص. وبقدر أهمية الميزانية، تكون أهمية التخطيط لتحويل مجتمعاتنا كلها إلى بلد صناعي تتعدد به موارد الدخل وترتفع نسبة الإنتاجية والمنافسة وتوظف فيه كافة الموارد الطبيعية والبشرية وليشمل المشروعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وبقدر أهمية الميزانية، تكون أهمية الرقابة والمحاسبة والعدالة والقضاء النزيه وبسط الحقوق لكل المواطنين. وبقدر أهمية الميزانية، تكون مكافحة التطرف والطائفية والعنصرية واللا مسؤولية. وبأهمية الميزانية، تكون أهمية إلزام البنوك بتحمل مسؤولياتها الاجتماعية تجاه التعليم والصحة والمجتمع المدني وتمكين الشباب.
لقد اتسعت دائرة الذين يترقبون الميزانية ويتابعونها، لكن هناك ممن لا تعنيهم أرقام الميزانية صعدت أو هبطت، إما لجهل أو لأنهم في زاوية لا تلامسها الميزانية بشكل مباشر.
بالشكر تدوم النعم، ونحمد الله على نعمة الأمن والرخاء التي تعيشها المملكة وكل من على أرضها، وهذا ما يدفعنا لأن ننشد الأفضل وليس الأكثر.
فقد كانت ولا تزال ميزانية المملكة توزع بشكل قطاعي. أي لكل قطاع على حدة، فهناك ميزانية لقطاع التعليم وقطاع الصحة وقطاع الشؤون الاجتماعية... إلخ، وهذا التوزيع كان مناسبا في مراحل معينة خلال الخطط الخمسية، لكن التنمية النوعية التي وصلتها المملكة في هذه المرحلة، بإعادة النظر بالتوزيع القطاعي إلى التوزيع المناطقي، رغم ما يكتنف هذا المقترح من ملاحظات، يمكن التغلب عليها وتحييدها مع الوقت والمراقبة.
إنه من غير الواقعي ومن غير المنطقي، أن تفيض ميزانية قطاع التعليم في منطقة نجران، ولا تستطيع منطقة نجران أن تستفيد من هذا الفائض. ولا شك أن وقتا طويلا ومالا كثيرا يتم إهدارهما، قبل أن تستفيد الشؤون الاجتماعية في حائل من فائض ميزانية الزراعة في منطقة حائل، نتيجة لأن الميزانية قطاعية وليست مناطقية. من المهم أن تعطى المنطقة وإمارتها وبقية المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في المنطقة لقربها لاحتياجات المنطقة وأهلها ولقدرتها على متابعة المشروعات المتعثرة والتي أصبحت ظاهرة تعاني منها كافة القطاعات بكل المناطق.
لا يمكن أن تكون الوزارة أقدر من إمارة المنطقة في التخطيط على مستوى المنطقة وبمتابعة مشروعات المنطقة وبنقل الوفر المالي من بند الصحة إلى بند التعليم أو بند المواصلات أو بند الشؤون الاجتماعية.
صحيح أن المنطقة بحاجة لكوادر مؤهلة في الميزانيات وفي بعض المجالات ذات الصلة، لكي تكون مؤهلة في إدارة وتشغيل ميزانية المنطقة، لكن هذا يتم عادة مع الوزارات المعنية حتى تتراكم الخبرة لدى كافة المناطق.
من المهم القول، بأن المناطق لتقوم بهذا الدور، تحتاج إلى مزيد من الثقة المصحوبة بالرقابة، وتحتاج إلى التأهيل المصحوب بالتوجيه.
هذه الخطوة لو تمت ليست من باب الترف، لكنها التنمية النوعية التي أصبحت ملحة بعد أن تشبعت التنمية الكمية ولم تعد مطلبا إلا بسبب غياب التنمية النوعية.
فالتحول الاقتصادي والإصلاح الإداري الذي يجري الآن في المملكة سيكشف بعد أن تكتمل حلقاته، إن ما تحتاجه المملكة اجتماعيا واقتصاديا هو تنمية نوعية وليس كمية. وهذا هو ما قد يتجاوز أي عجز في الميزانية، عندما يكون الهدف هو الأثر والتأثير وليس أرقاما مهما كبر حجمها وهذا هو المعنى المنشود وراء اقتراح ميزانية المناطق.