شهدت السنوات الأخيرة تصاعدا مذهلا بوتيرة استخدام التعاملات الإلكترونية في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية وبشكل متسارع ما أدى إلى اختزال كميات هائلة من الإجراءات اليدوية والعمليات الإدارية البشرية والتي كانت تستهلك أوقاتا طويلة وجهودا مضنية وأموالا طائلة.
لم تتمكن تلك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في الغالب إلى الآن من الوقوف على حجم وعمق التغييرات الهائلة والتحولات العميقة التي أحدثها زلزال التعاملات الإلكترونية على صعيد العمل الإداري وحجم الإجراءات الرأسية والأفقية والبعد التنظيمي والتأثير في حجم ونوع الموارد البشرية ما أدى إلى اختفاء أو تقلص بعض المهن وسطوع نجم مهن أخرى جديدة.
تلك التغيرات الإدارية والإجرائية الإلكترونية فرضت علاقات جديدة وحجم تعاملات مختلفا للعلاقات بين بعض الإدارات دون سواها داخل المؤسسة الواحدة أو ما بين المؤسسات.
في ظل هذه الظروف سريعة التغير وعميقة التحولات، نشأت كيانات جديدة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص، أو أنها تتماهى بين القطاعين دون هوية تستغل تلك المنطقة الرمادية الناشئة بين القطاعين الحكومي وغير الحكومي، فتأخذ من انتمائها لمظلة القطاع الحكومي الغطاء القانوني الإلزامي والاحتكاري للخدمة، بينما هي لا تخضع للمعايير الحكومية فيما يتعلق بخدماتها فتبيع خدماتها ومنتجاتها مثلما تبيع تلك الخدمات والمنتجات الشركات والبنوك التجارية والبقالات.
سمة أو الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية، والتي ترعاها وتتبناها مؤسسة النقد العربي السعودي هي إحدى المؤسسات التي ولدت ونشأت لتخدم البنوك المحلية والقطاع البنكي والمالي في المملكة، لكن يبدو أنها فكرت أن تستثمر ما لديها من معلومات هائلة تحصلت عليها من البنوك عن المتعاملين مع تلك البنوك والمؤسسات المالية، أقول يبدو أن سمة رأت مؤخرا أن تستثمر تلك البيانات التي تحصلت عليها لتبيعها إلى أصحابها برسوم غريبة وبطريقة أكثر غرابة.
فجأة وبدون مقدمات فرضت سمة رسوما غير مسبوقة على تقاريرها. فكل تقرير يكلفك 25 ريالا، لكن تقريرا واحدا لا يكفي، سمة تضطر الناس لطباعة عشرات التقارير بسبب مماطلتها بعدم تحديث الحالة الائتمانية لأصحابها بغية دفع الناس لطباعة المزيد من تلك التقارير، وبالتالي زيادة موارد سمة. علما أن هذه البيانات كان يفترض أن يحصل عليها صاحبها دون مقابل، ودون طباعة تقرير أصلا، طالما أن البنوك والمؤسسات المالية والصناديق كلها تعطي وتأخذ البيانات الائتمانية من سمة.
فمنذ إخلاء الطرف أو إغلاق المديونية من الجهة الأولى، يجب أن تتحدث بيانات الناس بعد إخلاء ذممهم أولا بأول ولا تضطر سمة أصحاب البيانات لطباعة عشرات التقارير تحت إلحاح الجهات الأخرى والتي أصبحت ملزمة هي الأخرى بتلك التقارير.
إذا فتعطيل الحصول على التقارير أصبح غاية لدفع الناس مكرهين لطباعة المزيد من التقارير من جيوب الناس بدلا من أن تتحملها البنوك المستفيد الأساسي من تلك البيانات.
والحقيقة أن البريد السعودي لا يختلف عن سمة كثيرا بهذه السياسة، فالاثنان يفرضان رسوم القطاع الخاص ويحتميان بعباءة القطاع الحكومي نتيجة لاحتكارهما السوق.
فهل يحق لسمة أو للبريد السعودي أو غيرهما من مؤسسات ما بعد التعاملات الإلكترونية أن تفرض الرسوم التي تحلو لها من حيث المبدأ؟ وهل يحق لتلك المؤسسات أن تقرر تلك الرسوم متى وكيفما شاءت وعلى من شاءت؟ إلى أي قانون أو نظام تستند هذه المؤسسات فيما تفرضه من رسوم؟ من المسؤول عن مراقبة ومراجعة هذه المؤسسات ومساءلتها قانونيا بما ذهبت إليه من الإثقال على الناس في فرض المزيد من الرسوم؟ أين مجلس الشورى من كل هذا؟ وأين مؤسسة النقد من هذه الحمى التي تستشري في المؤسسات المالية والائتمانية بسبب إملاءات البنوك وسطوتها في القرار؟
لا أشك أبدا بقيمة التعاملات الإلكترونية ولا أقلل من النقلة الكبيرة التي أحدثتها في العقول فضلا عما أحدثته في المؤسسات، فالبيانات الإلكترونية التي وفرتها هائلة والوقت الذي طوته يقاس بالسنوات الضوئية والجهد الذي وفرته لا يقدر بثمن، وهذه الفجوة الثقافية بالتحديد هي ما يدعوني إلى إيجاد مرجعية قانونية فنية تنظيمية تقوم بمراجعة التغيرات الهائلة والتحولات العميقة الناتجة عن تطبيق التعاملات الإلكترونية وإختزال الكم الهائل من الإجراءات والعمليات وما تلاها من زلزال في المفاهيم الإدارية والتنظيمية والفنية، كما يكون من مهامها الفصل بين ما هو حكومي وما هو غير حكومي من النتوءات والفجوات في المفاهيم التنظيمية، والتي تستغله بعض المؤسسات التي وجدت في هذه المنطقة الرخوة مجالا خصبا للبس قبعتين أو عباءتين قبعة القطاع العام عندما تريد الاحتكار والإلزام والفرض، والقطاع الخاص عندما تفرض رسوما غير منطقية ولا تنسجم أو تتوازى مع حجم الخدمة المقدمة.
وأؤكد لكم بأن سمة والبريد السعودي ليستا الحالتين الوحيدتين فسيأتي غيرهما الكثير الذي يستغل هذه المنطقة الناشئة بين القطاع الحكومي والقطاع غير الحكومي نتيجة لاستخدام وتطبيق التعاملات والبيانات الإلكترونية، ما لم يتم التعامل معها في وقتها وبقطع الطريق على من يريد أن يرتدي القبعتين في آن واحد دون مراعاة لجهات الاختصاص والصلاحية في ذلك.