إنما اللاجئون والنازحون طفرة خوف تستغيث بجحيم الجغرافيا من لعنة التاريخ. فلولا الخوف لما تقاطر اللاجئون والنازحون يبحثون عن ملاذ تأوي إليه أرواح تعذبت وتحملت ألوان الخوف أكثر من الموت نفسه ولم يشفع لها، فهاجر من حرقت النار طموحاته وآماله، وانضم لقوافل اللاجئين من حرقت النار منزله وعائلته وقلبه.
إن من حسن حظ البشر أو من سوء حظهم، تلك القدرة الهائلة لديهم على التخيل والخيال فنرى الأحداث بعدسة إما مقعرة أو محدبة فنجعل من الصورة العادية صورة مكبرة جدا جدا أو مصغرة جدا جدا تبعا للحالة النفسية والظروف الحياتية، على أن بيننا ومنا الذي لديه القدرة على أن يرى الأشياء بحجمها الطبيعي إلى حد ما، لولا أن الإعلام الموجه ألغى تقريبا الفوارق الفردية بين البشر وجعل منهم قطعانا تسوقهم عصا الدول والتنظيمات بأجهزتها الأمنية والاستخبارية، فأمعن هذا الإعلام وجيوش الإعلاميين من ورائه بصناعة الخوف ونشر تلك المنتجات المرعبة على رؤوس المستهدفين وتحت أقدامهم وعن يمينهم وشمالهم.
فالتكنيك الإسرائيلي لتهجير الفلسطينيين من القرى والأرياف كنازحين داخل أرض فلسطين أو كلاجئين خارج فلسطين هو نفسه الذي تمارسه المنظمات الإرهابية حاليا في العراق وسوريا وفي دول أخرى، والذي يلعب فيه الإعلام دورا كبيرا بصناعة الخوف ونشر التخويف في قلوب المستهدفين جميعا، لكن هذا الإعلام على درجة عالية من الاحتراف باستهداف السكان المراد تهجيرهم خلال أيام قليلة، باختلاق الأحداث وتكثيف بث أو نشر تلك التقارير، كما حصل مع الأزيديين في المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد في العراق، وكما حصل مع الدروز في منطقة السويداء في سوريا وكما حصل مرارا مع المسيحيين العراقيين والسوريين لتعديل الديموغرافيا بما ينسجم مع الجغرافيا النهائية الجديدة للمنطقة في مرحلة ما بعد الإرهاب. الإعلام ليس هو العامل الوحيد في صناعة الخوف و إدارة الشعوب من خلال صناعة الأحداث وتوجيهها، فالخوف طبيعة بشرية عند الإنسان فقد كنا نمارسه في طفولتنا ويمارسه غيرنا ضدنا. وحين كبرنا كبر الخوف معنا وتطورت أدوات التخويف. فلا أحد يشك بأن الإرهاب والطائفية والكراهية والأوبئة وشح الماء والغذاء هي في بعضها أزمات يتم افتعالها والزج بها للرأي العام، إما لشغله عن أمر آخر، أو لتهيئته للأسوأ كما يحصل في بعض الدول التي تفرض قانون الطوارئ عندما تريد أن تقيد الحريات، أو تهبط بسقف مطالب شعوبها عندما لا تستطيع كبح وتيرة الديموقراطية، إلا باللعب على وتر التخويف من عدو خارجي أو من عدو داخلي.
إنه من غير المستبعد، في زمن لا مجال فيه للصدفة، أن تتفاقم فجأة أزمة اللاجئين ليعبروا الحدود والبحار إلى القارة الأوروبية العجوز، حيث نجح الإرهاب بخلق ظاهرة النازحين في العراق، لكن استخدم تكنيك اللاجئين مع سوريا لغاية تتعلق بنوعية الموارد البشرية. فالإرهاب مطيع بتحقيق الأهداف العليا ويستجيب لما يستجد عندما يتمكن من تحقيق أكثر من هدف في عمليات أقل.
فقد تلجأ الأمم المتحدة إلى تغيير مفاهيم ومصطلحات وحتى قوانينها التي شرعتها من قبل حول مسمى اللاجئين والمهاجرين والنازحين وحتى المشردين والفقراء، استجابة لمرحلة ما بعد اتفاقية التجارة الدولية وما صاحبها من احتدام المنافسة بين الدول العظمى الجديدة حول الموارد الطبيعية والموارد البشرية، والذي سيشهد تنقلات هائلة للبشر وتحديدا الموارد البشرية النادرة، لن يكون معها وجود لمفهوم المهاجرين واللاجئين والنازحين في عصر الفضاءات المفتوحة والحدود التجارية شبه المفتوحة على الموارد البشرية والموارد الطبيعية المتناقصة، حيث الاعتماد على صناعة الخوف وإدارة الشعوب بأدوات التخويف الجديدة فتظفر الدول الكبرى بأكبر قدر من الموارد الطبيعية وتحد قدر المستطاع من هجرة الموارد البشرية الماهرة إلى أسواق أفضل.
فلولا الخوف والتخويف لكانت الشعوب والأمم كلها في درجة واحدة من الأمن والأمان والتحضر والنماء. لا فرق تنمويا أو حضاريا بين أمة و أخرى أو شعب وآخر، إلا بحجم الخوف الذي تتعرض له وتستهدف به، والشعوب التي كسرت حاجز الخوف وتحررت حتى وصلت أقصى درجات حريتها بل وتجاوزت إلى حريات الغير، استطاعت بالممارسة أن تعود إلى المنتصف الذي يقبل به الجميع ويتمحور حوله الأغلبية، فبنت أوطانها من هناك ومن تلك النقطة فلم تعد بحاجة لتعيد إنتاج مفهوم الوطن أو الأمة من رحم التاريخ أو من بوصلة الجغرافيا.
إنه من غير المتوقع أن يبقى كل ما حققته البشرية في مجال الحريات والحقوق بعد الآن، ستتغير كثير من المواثيق الأممية والأعراف الدولية بما فيها حقوق الإنسان واتفاقات الدول حول اللاجئين والمهاجرين وستشهد ربما مراجعة في ضوء مفهوم المواطن العابر للحدود.