بين الإقصاء والاستيعاب
هل تنجح القيادة الإقصائية؟
د. محمد الخالدي
وأَنتَ وَإِنْ أُفْردتَ في دارِ وَحْشَةٍ ... فإنِّي بدارِ الأُنسِِ في وَحْشَةِ الفَردِ
أَوَدُّ إذَا ما الموتُ أَوْفدَ مَعشَراً ... إلى عسْكرِ الأمْوَاتِ أنِّي مع الوفدِ
(ابن الرومي)
تخيل نفسك تدلف إلى مجلس من المجالس، وأهله مستغرقون في حديث. ثم فجأة يتوقفون عن الحديث عند قدومك. مهما كانت طبيعة الحديث، فسوف تشعر أنك لست جزءا من المجموعة. ولو تكرر الأمر معك، فربما لن تكرر المشاركة في ذلك المجلس. كل كلمات وحركات وأفعال القائد مهما قل شأنها، قد ترسل إشارات إيجابية أو سلبية حول توجه القائد نحو استيعاب الجميع. فلو اكتفى قائد المنظمة مثلا بمصافحة بعض زملائه وأهمل بعضهم، أو تكلم بطريقة توحي بميلٍ تجاه بعضهم، أو أطلق تعليقا ساخرا على أحدهم - سواء كان ذلك بطريقة مقصودة أو عفوية - فإن الأشخاص المعنيين سوف يعتريهم شعور بأنهم مُقصَون. وقد يؤدي ذلك الشعور بالإقصاء أو التجاهل في مكان العمل إلى آثار سلبية كبيرة على سعادة الموظفين وأدائهم.
لقد ظهر مفهوم "القيادة الاستيعابية" حديثا، حيث كان عنوانا لكتاب ألفه "جيمس ريان" في العام 2005. والقائد الاستيعابي هو الذي يعمل في ظل مجموعة من القيم، التي تثمن العلاقات الإنسانية. وينظر إلى ما وراء الأهداف المالية والتجارية للمنظمة. وتضم مجموعة القيم هذه احترام الأشخاص، ورفع مستوى خدمتهم لا خدمة المصالح الشخصية، وضبط النفس في استخدام السلطة، والاهتمام بالتنمية المستدامة للآخرين.
في دراسة حديثة، وجد الباحثون في جامعة أوتاوا بكندا أن سلوك الإقصاء من قبل القادة في مكان العمل له ضرر على نفسية الموظفين أكبر من التحرش المباشر. بينما في العام 2011، وجدت الباحثة جيليان شابيرو (من شركة أبورتشينيتي ناو) في بريطانيا أن أكثر من 80% من الناس الذين عملوا مع قائد غير إقصائي كانوا أكثر حماسا وإنتاجية وولاء للمنظمة. وكانوا أكثر ميلا للعمل بشكل يتجاوز ما يطلب منهم. ولكن اتضح أيضا أن نحو ثلثي الناس قالوا إنه أكثر من نصف قادتهم كانوا إقصائيين.
وفي العام 2013، قامت شركة "أيرنست أند يانغ" بدراسة استطلاعية شملت 821 من كبار المديرين التنفيذيين في 14 دولة في العالم. وقد أكد 85% منهم أن القيادة الاستيعابية التي تشجع الفِرق على إبداء وجهات نظرها المتنوعة والمعارضة، هي وسيلة فعالة لتحسين أداء المنظمة.
وفي بحث عالمي آخر قامت به شركة الأبحاث "كاتاليست" (2014)، وضم 1500 موظف من ست دول مختلفة هي أستراليا والصين وألمانيا والهند والمكسيك والولايات المتحدة، ظهر أن الموظفين الذين يشعرون بأنهم مشمولون يتجاوزون في أدائهم ما هو متوقع منهم، ويتقدمون بأفكار إنتاجية جديدة، ويأتون بطرق مبتكرة لإنجاز أعمالهم، ويكونون أكثر تعاونا مع زملائهم. كما وجد البحث أن القيادة الاستيعابية لها أثر إيجابي في كل البيئات المختلفة في الدول الست. وهي فعالة في التعامل مع الرجال والنساء على حد سواء، ولكل الموظفين بغض النظر عن أعمارهم.
ومن أنماط السلوك التي تدل على القادة الاستيعابيين هو أنهم (1) يمكّنون الآخرين ويشجعون فرقهم ويساعدونهم على التميز في أدائهم، ويتواصلون معهم بفعالية ويتجنبون استخدام التعليقات المهينة، و(2) يقدّرون مبدأ المساءلة، ويؤمنون بأفراد فريقهم، كما يحملونهم المسؤولية عن الأعمال التي تحت سيطرتهم، و(3) ويتصفون بالشجاعة، ولا يهابون من الوقوف دفاعا عن زملائهم ومبادئهم، حتى ولو تحملوا في ذلك مخاطر شخصية، و(4) وهم متواضعون ويعترفون بأخطائهم، ومنفتحون على وجهات النظر المختلفة بغية الوصول إلى أداء أفضل.
إن مراقبة القادة لتصرفاتهم والميل الموجود في سلوكهم بشكل دقيق، قد يساعدهم على أن يكونوا استيعابيين للجميع. فالتوجه الاستيعابي يبدأ في قمة الهرم الإداري للمنظمة، ومن ثم يتدرج نزولا ليخلق بيئة استيعابية في المنظمة.
المشكلة أن أكثر القادة يصابون بالعمى تجاه اللحظات والمواقف التي تجعل الناس يشعرون بأنهم مستبعدون لحظة اعتقادهم أنهم عوملوا بشكل مختلف. وهذا لا يعني أبدا أن تُغفل الفروق بين الناس في الأداء والصفات الأخرى. فأكثر الناس لا يرغبون أن تُمحى فوارقهم من أجل أن يكونوا جزءا من المجموعة. ومن المهم توزيع التركيز على الناس، مثلا في تدوير أماكن الجلوس في الاجتماعات، أو إعطاء المنطوين على أنفسهم بعض المسؤوليات ليكسبوا الثقة في أنفسهم.
ومما يساعد على شعور الناس بأنهم مشمولون، هو طلب إبداء آرائهم وأفكارهم أمام الآخرين. فالاستماع إلى آراء الموظفين يشعر الجميع بقيمتهم. وهذا يستلزم ابتعاد القائد عن أنانيته، واستخدام كلمة "نحن" بدلا من "أنا"، حيث كان ذلك مناسبا. ومن المهم أيضا ألا يبخل القائد بالمدح المستحَق لأهله، وأن ينظر إلى القيادة الاستيعابية على أنها ليست فعلا منقطعا، بل عملية مستمرة ومنهجا في القيادة لا يتوقف ولا يخضع للظروف والمتغيرات.
أكاديمي مهتم بقضايا الموارد البشرية