تجيد إسرائيل الحرب النفسية، وهي بارعة بابتكار أساليب مستحدثة في الحرب النفسية، وقد حققت الكثير من التنازلات العربية والفلسطينية نتيجة لكثافة حربها النفسية منذ ميلاد تأسيس الكيان الإسرائيلي. لعلنا نذكر هنا أن أسلوب داعش المتوحش في حربها النفسية الذي يستهدف تفريغ المدن والقرى العراقية والسورية من سكانها هو من أقدم الدروس التي استخدمتها إسرائيل منذ بدايات تأسيس الكيان الإسرائيلي في تهجير الفلسطينيين وتفريغ مئات القرى والهجر الفلسطينية من سكانها منذ بداية تأسيس المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وهو ما جعل البعض يجد شبها بين التجربتين المتوحشتين الداعشية والإسرائيلية وربما الكيانين.
منذ أيام قرر الفرنسيون فجأة الدعوة لمؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط، وكأن الإسرائيليين قبلوا ووافقوا على قيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس ووقف الاستيطان في الضفة وعودة اللاجئين ورفع الحصار عن غزة والإفراج عن الأسرى وما إلى غير ذلك من المطالب الفلسطينية والعربية. المؤتمر كما ذكر البيان هو لتحريك عملية السلام فقط للتحريك لا أكثر، هذا يعني أن السلام ليس هدفا ولن يكون هدفا، إنما الهدف هو التحريك.
لم يكن السلام هدفا إسرائيليا ولن يكون، و«الدولة» الفلسطينية محرمة إسرائيليا، ولذلك بقيت حتى في الإعلام باسم «قضية» فلسطين وليست «دولة» فلسطين. لاأحد يعرف طبعا إلى متى تستمر «مسرحية» عملية السلام و«فيلم» مؤتمر الشرق الأوسط، وإلى متى تبقى فلسطين «قضية» وليس «دولة»، لأن لا أحد يعرف إلى أين انتهت «خارطة» الطريق و«اتفاقية» أوسلو وما ترتب عليها من متغيرات بما فيها إيجاد سلطة فلسطينية.
البعض يعرف جيداً من الدروس المتكررة لـ «مؤتمرات السلام» ومن «عملية» السلام أن إسرائيل ترغب دائما بتحديث بنك «التنازلات» العربية التي تقطفها وتتحصل عليها إسرائيل بعد كل جولة من المغامرات العسكرية الإسرائيلية أو بعد كل فترة زمنية أو بعد سلسلة من الأحداث في المنطقة وما ينتج عنها من تأثيرات وآثار نفسية تفضي لمزيد من التنازلات.
المجتمع الدولي المثقل بالنفاق يدعو لمؤتمر سلام وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يدعو لمؤتمر سلام ما لم تكن إسرائيل هي من طلبت منه ذلك. و«تحريك» عملية السلام التي يبرر بها الفرنسيون ودعوتهم لمؤتمر السلام تعني في العرف الإسرائيلي «تحديث» بنك التنازلات الفلسطينية والعربية لصالح إسرائيل.
السؤال الذي يجب أن نطرحه، ما هو سقف التنازلات التي تكفي إسرائيل أو ما هي اللقمة التي تسد الشهية الإسرائيلية؟ وإذا ما أردنا أن نسأل عن النصف الثاني من الكأس، ما حجم التنازلات التي بمقدور العرب والفلسطينيين تقديمه من تنازلات في أي مفاوضات مع الطرف الإسرائيلي في ظل حالة الضعف والتمزق العربي وفي ظل الانقسام السياسي الفلسطيني بين كيانين فلسطينيين اثنين في بقعتين ضيقتين من الأرض الفلسطينية: واحدة تئن من وطأة الحصار والأخرى تتوارى وتضمحل تحت وطأة الاستيطان المكثف؟ وفي ظل حربين دوليتين طاحنتين في العراق وفي سورية ؟
مشكلة إسرائيل أن طموحاتها أكبر بكثير من إمكاناتها العسكرية ومن قدراتها العلمية ومن موقعها الإستراتيجي، فلو امتلكت إسرائيل أحدث الأسلحة الأمريكية ومرتزقة العالم ولو أفصحت عن تحالفها مع المنظمات الإرهابية في سورية والعراق، ولو رفضت الانسحاب من الجولان، ولو سرقت المتاحف في العراق ودمرت الآثار في سورية ولو امتلكت فيتو مجلس الأمن، لن تستطيع إسرائيل أن تتجاوز حجمها الزمني والمكاني وقدراتها البشرية ومواردها الطبيعية. إن إمكانية وجود إسرائيل في المستقبل أمر صعب للغاية حسب مارسيليو سفيرسكي الأكاديمي والباحث من خلال كتاب صدر له سنة 2014 بعنوان «ما بعد إسرائيل .. نحو تحول ثقافي»، وهو من أعمق الكتب التي قرأتها عن التركيبة الإسرائيلية.
ويقول إن كل التاريخ الدموي الذي أسس لإسرائيل لا يزعج قلوب الإسرائيليين لأنهم تدربوا على ألا يحددوا «هوية الكارثة»، وأن الإسرائيليين ملقحون ضد التفكير الأخلاقي والقيمي والإنساني، حيث يوجد في المجتمع الإسرائيلي الحديث نسخ أخرى من «المظلمة» والتي تتمثل في العنصرية والاضطهاد الذي يمارسه «الصهاينة البيض» ضد الغير، سواء كان هذا الغير إسرائيليا أو غير إسرائيلي، حيث يعاني اليهود الأثيوبيون والسود وغيرهم عنصرية شديدة في إسرائيل.
الإسرائيليون أكثر من غيرهم يعرفون محدودية إمكاناتهم، ولذلك هم يعولون على التنازلات التي يقدمها الجانب العربي والفلسطيني أكثر من تعويلهم على إمكاناتهم وقدراتهم المحدودة جدا جدا.