من سوء الحظ أن الجيل الذي حمل عبء الأسئلة، ليس دائما هو الجيل الذي يعثر على الإجابات. ونعرف أن بين الجيلين أحيانا أجيالا لا نعرف لأي الجيلين تنتمي.
من المهم أن يكون للثقافة هياكل وخطط وإستراتيجية وبرامج وأهداف وهيئة ووزارة. فقد كان قرار تأسيس هيئة عامة للثقافة مؤشرا جديدا على منظومة قرارات تصب في اتجاه واحد وهو الأخذ بيد المجتمع ككل نحو الاستدامة. وكما قال وزير الثقافة والإعلام للارتقاء بأدوار الثقافة المتعددة في خدمة الثقافة والأدب والفنون المتنوعة للإسهام حضاريا وإنسانيا. في نفس الوقت، من الضروري، النأي بالهيئة عن التدخل في محتوى الثقافة أو توجيهها والتحكم بالإبداع والمبدعين أو فرض توجهات معينة على المثقفين.
ومن المهم كذلك أن يكون للثقافة اقتصاداتها التي تكفل استقلالها واستمرارية عطاءاتها وديمومة إبداعاتها. فلا ينتقص الثقافة أن يكون لها اقتصادات ترتبط بأدوات السوق ولغة السوق، لضمان وصول المنتج الثقافي المحلي أفقيا ورأسيا، داخليا وخارجيا نوعيا وكميا، فنحن لن نخترع العجلة، وليس عيبا أن نبدأ من حيث وصل الآخرون ومن المهم إعادة هيكلة قطاعات الثقافة بما ينسجم مع بقية قطاعات الإنتاج في المجتمع.
فمن أين تبدأ الثقافة و أين تنتهي؟ ما حدود الثقافة؟ وما جغرافيتها وما مساحتها؟ هل الثقافة المقصودة أفقية أم رأسية؟ هل تبدأ الثقافة بالقراءة، وهل تنتهي بالكتابة؟ وما اقتصادات الثقافة؟
لا يمكن الحديث عن الثقافة دون الحديث عن الهوية التي تصنعها وتحملها وتؤثر بها وتتأثر بها بشكل واع وغير واع. وهي تعني الانتماء والارتباط الأولي الأهلي للفرد بمحيطه وامتداداته الرأسية والأفقية.
من المفارقات أننا عشنا تجربة غير قصيرة من الغربة والانشطار في هويتنا بين عروبتنا وديننا، بسبب حدية التصنيف وضيق الأفق وانعدام الرؤية التي تستوعب أن العروبة ليست على نقيض مع الدين وليس الدين على نقيض مع العروبة، لأن الانتماء واحد إلا عند من تقزمت انتماءاتهم قبائليا أو طائفيا و مذهبيا، وضاقت رؤيتهم تبعا لمصالحهم الضيقة. فأرادوا أن يملوا على الناس قناعاتهم. في الوقت الذي نطالب الهيئة أن يكون دورها في رسم الإستراتيجيات ووضع الخطط والبرامج والأهداف، نرى أن للهيئة دورا في بعث هويتنا الحقيقية المستندة إلى عروبتنا وديننا دون الانجراف للمذهبيات والطائفية والقبائلية، والعنصرية.
ولأن لدينا تراثا طويلا ومليئا بالغث والسمين، فقد يكون من أولويات الهيئة في المرحلة القادمة العمل على تنقيح هذا التراث لكي لا نفاجأ بعد كل خمسين سنة بمتطرفين جدد يفهمون هذا التراث بطريقتهم ويؤولونه حسب قناعاتهم. إن بقاء التراث بهذه الطريقة مفتوح لكل الأهواء ودون مراجعة سيجر المجتمع بعد كل فترة من الزمن للوقوع بمنزلقات جديدة ناتجة عن سوء تقدير وسوء فهم قراءة النص وترويض تلك النصوص لغايات تلك النفوس وأهدافها.
كان الشعر ثقافة عربية بامتياز، والشعر يحظى إلى اليوم بمكانة مرموقة بين الأطر الأدبية المختلفة، لكن عصرنا واعتبارات العولمة والانفتاح الافتراضي وغير الافتراضي، تحتم على الهيئة أن تضع نصب عينها تعزيز واستزراع أطر ثقافية أخرى بجانب الشعر، مثل النتاج السينمائي والإنتاج التلفزيوني المنافس. وإقامة المنافسات الواسعة في أنواع الكتابة المختلفة وإيجاد الآليات التي تضمن وصول كل كاتب إلى جمهور القراء بيسر ودون تعقيدات. كما أن التلفزيون الوطني بقنواته المختلفة مطالب بمراجعة شروط شراء الدراما والبرامج الثقافية وغير الثقافية لكسر الاحتكار ولضمان وصول دراما منافسه ضمن الحركة الثقافية بإطارها العام، و لمضاعفة أعداد مؤسسات الإنتاج التلفزيوني وإتاحة الفرصة لكل المتنافسين.
ولدعم اقتصادات الثقافة، قد يكون الوقت قد حان لإيجاد آلية تمويل مشروعات ثقافية أو إيجاد صندوق حكومي يمول أصحاب المشروعات الثقافية أو مساعدة القائم منها بالانتشار عربيا وعالميا مع الحرص بالنأي بالأعمال المحلية عن ثقافة العنف والتجارة والجزر المعزولة من القناعات المحدودة.
أخيرا، من الضروري مراجعة أهداف المهرجان الوطني للتراث والثقافة، لكي يكون على مدار العام من ناحية، ومن ناحية أن يتنقل في مناطق المملكة المختلفة.